فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{ن} بالسُّكُونِ على الوقفِ، وقرئ بالكسرِ، وبالفتحِ، لالتقاءِ الساكنينِ، ويجوزُ أن يكون الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولهِم الله لأفعلنّ بالجرِّ وأن يكون ذلك نصبا بإضمارِ أذكُرْ لا فتحا كما سبق في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ. وامتناعُ الصرفِ للتعريفِ والتأنيثِ على أنّهُ علمٌ للسورةِ ثُمّ إنْ جُعل إسما للحرفِ مسرودا على نمطِ التعديدِ للتحدِّي بأحدِ الطريقينِ المذكورينِ في موقِعِه أو إسما للسورةِ منصوبا على الوجهِ المذكورِ أو مرفوعا على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ فالواوُ في قوله تعالى: {والقلم} للقسمِ، وإنْ جُعل مقسما بهِ فهي للعطفِ عليهِ، وأيّا ما كان فإنْ أُريد بهِ قلمُ اللوحِ والكرامِ الكاتبين، فاستحقاقُهُ للإعظامِ بالإقسامِ بهِ ظاهرٌ، وإنْ أُريد بهِ الجنسُ، فاستحقاقُ ما في أيدي النّاسِ لذلك لكثرةِ منافعِهِ ولو لم يكُنْ له مزيةٌ سوى كونِهِ آلة لتحريرِ كتبِ الله عزّ قائلا لكفى بهِ فضلا موجبا لتعظيمِهِ. وقرئ بإدغامِ النونِ في الواوِ. {وما يسْطُرُون} الضميرُ لأصحابِ القلمِ المدلول عليهم بذكره، وقيل للقلم على أن المراد به أصحابه، كأنه قيل وأصحاب القلم ومسطوراتِهِم، على أنّ ما موصولةٌ أو سطرِهِم على أنّها مصدريةٌ، وقيل للقلمِ نفسِهِ بإسنادِ الفعلِ إلى الآلةِ وإجرائِهِ مجْرى العقلاءِ لإقامتِهِ مقامهُم، وقيل المرادُ بالقلمِ ما خُطّ في اللوحِ خاصّة، والجمعُ للتعظيمِ. وقوله تعالى: {ما أنت بِنِعْمةِ ربّك بِمجْنُونٍ} جوابُ القسمِ، والباءُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في خبرِها والعاملُ فيها معْنى النّفي كأنّه قيل أنت بريءٌ من الجنونِ ملتبسا بنعمةِ الله التي هي النبوةُ والرياسةُ العامةُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى معارجِ الكمالِ مع الإضافةِ إلى ضميرِه عليه الصّلاةُ والسّلامُ والإيذانِ بأنّه تعالى يُتمُّ نعمتهُ عليهِ ويبلغُه من العلوِّ إلى غايةٍ لا غاية وراءها والمرادُ تنزيهُهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ عمّا كانُوا ينسبونهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ إليهِ من الجنونِ حسدا وعداوة ومكابرة مع جزمِهِم بأنّه عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ في غايةِ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةِ النهاياتِ النائيةِ من حصانةِ العقلِ ورزانةِ الرأيِ.
{وإِنّ لك} بمقابلةِ مقاساتِك ألوان الشدائدِ منْ جهتِهِم وتحملِك لأعباءِ الرسالةِ {لأجْرا} لثوابا عظيما لا يُقادرُ قدرُهُ {غيْرُ ممْنُونٍ} مع عظمِهِ كقوله تعالى: {عطاء غيْر مجْذُوذٍ} أوغير ممنونٍ عليك من جهةِ الناسِ فإنّهُ عطاؤُه تعالى بلا توسطٍ {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} لا يُدرِكُ شأوهُ أحدٌ من الخلقِ، ولذلك تحتملُ من جهتِهِم ما لا يكادُ يحتملُهُ البشرُ. وسُئلتْ عائشةُ رضي الله عنْها عن خُلُقِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ فقالتْ: «كان خُلُقه القرآن» ألست تقرأ القرآن. {قدْ أفْلح المؤمنون} والجملتانِ معطوفتانِ على جوابِ القسمِ {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون} قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهُما فستعلمُ ويعلمون يوم القيامةِ حين يتبين الحقُّ من الباطلِ، وقيل فستبصرُ ويبصرون في الدُّنيا بظهورِ عاقبةِ أمرِكُم بغلبةِ الإسلامِ واستيلائِك عليهِم بالقتلِ والنهبِ وصيرورتِك مهيبا مُعظما في قلوبِ العالمين وكونِهِم أذلة صاغرين. قال مقاتلٌ: هذا وعيدٌ بعذابِ يومِ بدرٍ {بِأيّكُمُ المفتون} أي أيكم الذي فُتن بالجنونِ، والباءُ مزيدةٌ أو بأيكم الجنونُ على أنّ المفتون مصدرٌ كالمعقول والمجلودِ أو بأيِّ الفريقينِ منكُم المجنونُ أبفريقِ المؤمنين أم بفريقِ الكافرين أي في أيِّهما يوجدُ من يستحقُّ هذا الإسم وهو تعريضٌ بأبي جهلِ بنِ هشامٍ والوليدِ بنِ المغيرة وأضرابِهِما، كقوله تعالى: {سيعْلمُون غدا مّنِ الكذاب الأشر} وقوله تعالى: {إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمن ضلّ عن سبِيلِهِ} تعليلٌ لما ينبئُ عنهُ ما قبلهُ من ظهورِ جنونِهِم بحيثُ لا يخْفى على أحدٍ، وتأكيدٌ لما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ أي هُو أعلمُ بمن ضلّ عن سبيلِهِ تعالى المؤدِّي إلى سعادةِ الدارينِ وهام في تيهِ الضلالِ متوجها إلى ما يفضيهِ إلى الشقاوةِ الأبديةِ وهذا هُو المجنونُ الذي لا يفرقُ بين النفعِ والضررِ بل يحسبُ الضرر نفعا فيؤثرهُ والنفع ضررا فيهجُرهُ {وهُو أعْلمُ بالمهتدين} إلى سبيلِهِ الفائزين بكلِّ مطلوبٍ الناجين عن كلِّ محذورٍ، وهُم العقلاءُ المراجيحُ فيجزِي كلا من الفريقينِ حسبما يستحقُّهُ من العقابِ والثوابِ وإعادةُ هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ، والفاءُ في قوله تعالى: {فلا تُطِعِ المكذبين} لترتيبِ النّهيِ على ما ينبئُ عنهُ ما قبلهُ من اهتدائِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ وضلالِهِم أو على جميعِ ما فُصِّل من أوّلِ السورةِ، وهذا تهييجٌ وإلهابٌ للتصميمِ على معاصاتِهِم أيْ دُمْ على ما أنت عليهِ من عدمِ طاعتِهِم وتصلّبْ في ذلك، أو نهيٌ عن مداهنتِهِم ومداراتِهِم بإظهارِ خلافِ ما في ضميرِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ استجلابا لقلوبِهِم لا عن طاعتِهِم حقيقة كما ينبئُ عنْهُ قوله تعالى: {ودُّواْ لوْ تُدْهِنُ} فإنّه تعليلٌ للنّهيِ أو للانتهاءِ وإنما عبّر عنها بالطاعةِ للمبالغةِ في الزجرِ والتنفيرِ أيْ أحبُوا لو تلاينُهُم وتسامحُهُم في بعضِ الأمورِ {فيُدْهِنُون} أي فهُم يُدهِنُون حينئذٍ أو فهُم الآن يُدْهِنُون طمعا في إدهانِك، وقيل هو معطوف على {تُدهنُ} داخلٌ في حيزِ لوْ والمعْنى ودُّوا لو يُدهنُون عقيب إدهانِك، ويأباهُ ما سيأتِي من بدئِهِم بالإدهانِ على أن إدهانهُم أمرٌ محققٌ لا يناسبُ إدخالهُ تحت التمنِّي، وأيّا ما كان فالمعتبرُ في جانبِهِم حقيقةُ الإدهانِ الذي هُو إظهارُ الملاينةِ وإضمارُ خلافِها، وأمّا في جانبِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ فالمعتبرُ بالنسبةِ إلى ودادتِهِم هو إظهارُ الملاينةِ فقطْ وأمّا إضمارُ خلافِها فليس في حيزِ الاعتبارِ بلْ هُم في غايةِ الكراهةِ لهُ إنما اعتبارُهُ بالنسبةِ إليهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ وفي بعضِ المصاحفِ {فيُدهنُوا} على أنّه جواب التمني المفهوم من ودُّوا أو أن ما بعده حكاية لودادتهم، وقيل على أنه عطف على {تُدهنُ} بناء على أنّ {لوْ} بمنزلةِ إنِ الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينسبكُ منها وممّا بعدها مصدرٌ يقعُ مفعولا لـ: {ودُّوا} كأنّه قيل ودُّوا أنْ تُدهن فيدهنوا وقيل لوْ على حقيقتِها وجوابُها وكذا مفعولُ {ودُّوا} أي ودُّوا إدهانك لو تُدهنُ فيُدهنُوا لسرُّوا بذلك.
{ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ} كثيرِ الحِلفِ في الحقِّ والباطِلِ. تقديمُ هذا الوصفِ على سائرِ الأوصافِ الزاجرةِ عن الطاعةِ لكونِهِ أدخل في الزجرِ {مُّهِينٌ} حقيرِ الرّأي والتدبيرِ {همّازٍ} عيابٍ طعّانٍ {مّشّاء بِنمِيمٍ} مضربٍ نقال للحديث من قومٍ إلى قومٍ على وجهِ السِّعايةِ والإفسادِ بينهُم فإنّ النميمِ والنميمة السِّعايةُ {مّنّاعٍ لّلْخيْرِ} أي بخيلٍ أو مناعٍ للناسِ من الخيرِ الذي هُو الإيمانُ والطاعةُ والإنفاقُ {مُعْتدٍ} متجاوزٍ في الظلمِ {أثِيمٍ} كثيرِ الآثامِ {عُتُلٍ} جافٍ غليظٍ من عتلهُ إذا قادهُ بعنفٍ وغلظةٍ {بعْد ذلِك} بعد ما عُدّ من مثالبهِ {زنِيمٍ} دعي مأخوذٌ من الزّنمةِ وهي الهنةُ من جلدِ الماعزِ تُقطعُ فتخلّى متدلية في حلقِها، وفي قوله تعالى بعد ذلك دلالةٌ على أنّ دعوتهُ أشدُّ معايبِهِ وأقبحُ قبائِحِه، قيل هُو الوليدُ بنُ المغيرةِ فإنّهُ كان دعِيّا في قريشٍ وليس من سِنْخِهِم ادعاهُ المغيرةُ بعد ثمانِي عشرة من مولِدِه وقيل هو الأخنسُ بنُ شُريقٍ أصلُه من ثقيفٍ وعدادُه في زُهرة {أن كان ذا مالٍ وبنِين} متعلقٌ بقوله تعالى: {لا تُطِعْ} أي لا تُطِعْ من هذِه مثالبُه لأنْ كان متمولا مستظهرا بالبنين.
وقوله تعالى: {إِذا تتلى عليْهِ ءاياتنا قال أساطير الأولين} استئنافٌ جارٍ مجْرى التعليلِ للنّهي، وقيل متعلقٌ بما دلّ عليهِ الجملة الشرطيةُ من معْنى الجحودِ والتكذيبِ لا بجوابِ الشرطِ لأنّ ما بعد الشرطِ لا يعملُ فيما قبلهُ كأنْ قيل لكونِه مُستظهرا بالمالِ والبنين كذّب بآياتِنا، وفيهِ أنّه يدلُّ على معْنى أنّ مدار تكذيبِهِ كونُه ذا مالٍ وبنين من غيرِ أنْ يكون لسائرِ قبائِحِه دخلٌ في ذلك. وقرئ {أأنْ كان} على معْنى ألأنْ كان ذا مالٍ كذّب بها أو أتطيعُه لأن كان ذا مالٍ. وقرئ {إِنْ كان} بالكسرِ والشرطُ للمخاطبِ أي لا تُطعْ كلّ حلاّفٍ شارطا يسارهُ لأنّ إطاعة الكافرِ لغناهُ بمنزلةِ اشتراطِ غناهُ في الطاعةِ. {سنسِمُهُ على الخرطوم} بالكيِّ على أكرمِ مواضعِه لغايةِ إهانتِه وإذلالِه، قيل أصاب أنف الوليدِ جراحةٌ يوم بدرٍ فبقيتْ علامتُها، وقيل معناهُ سنعلِّمُه يوم القيامةِ بعلامةٍ مشوِّهةٍ يُعلم بها عن سائرِ الكفرةِ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {ن}
قرأ أبو بكر، وورش، وابن عامر، والكسائي، وابن محيصن، وابن هبيرة بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو، وقرأ الباقون بالإظهار، وقرأ أبو عمرو، وعيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل.
وقرأ ابن عامر، ونصر، وابن إسحاق بكسرها على إضمار القسم، أو لأجل التقاء الساكنين، وقرأ محمد بن السميفع وهارون بضمها على البناء.
قال مجاهد، ومقاتل، والسديّ: هو الحوت الذي يحمل الأرض، وبه قال مرّة الهمذاني، وعطاء الخراساني، والكلبي.
وقيل: إن نون آخر حرف من حروف الرحمن.
وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله به.
وقال ابن كيسان: هو فاتحة السورة.
وقال عطاء، وأبو العالية: هي النون من نصر وناصر.
قال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره المؤمنين، وقيل: هو حرف من حروف الهجاء، كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك، وقد عرّفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أوّل سورة البقرة، والواو في قوله: {والقلم} واو القسم، أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان، وهو واقع على كل قلم يكتب به.
وقال جماعة من المفسرين: المراد به: القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، أقسم الله به تعظيما له.
قال قتادة: القلم من نعمة الله على عباده {وما يسْطُرُون} (ما) موصولة أي: والذي يسطرون، والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره؛ لأن ذكر آلة الكتابة تدلّ على الكاتب.
والمعنى: والذي يسطرون أي: يكتبون كل ما يكتب، أو الحفظة على ما تقدّم.
ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، أي: وسطرهم.
وقيل: الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة، وإجرائها مجرى العقلاء، وجواب القسم قوله: {ما أنت بِنِعْمةِ ربّك بِمجْنُونٍ} (ما) نافية، وأنت اسمها، وبمجنون خبرها.
قال الزجاج: أنت هو اسم ما، وبمجنون خبرها، وقوله: {بِنِعْمةِ ربّك} كلام وقع في الوسط أي: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال: أنت بحمد الله عاقل، قيل: الباء متعلقة بمضمر هو حال، كأنه قيل: أنت بريء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة.
وقيل: الباء للقسم أي: وما أنت ونعمة ربك بمجنون.
وقيل: النعمة هنا الرحمة، والآية رد على الكفار حيث قالوا: {يأيُّها الذي نُزّل عليْهِ الذكر إِنّك لمجْنُونٌ} [الحجر: 6].
{وإِنّ لك لأجْرا} أي: ثوابا على ما تحملت من أثقال النبوّة، وقاسيت من أنواع الشدائد غيْرُ ممْنُونٍ أي: غير مقطوع، يقال: مننت الحبل إذا قطعته.
وقال مجاهد: غيْرُ ممْنُونٍ غير محسوب، وقال الحسن: {غيْرُ ممْنُونٍ} غير مكدّر بالمنّ.
وقال الضحاك: أجرا بغير عمل.
وقيل: غير مقدّر وقيل: غير ممنون به عليك من جهة الناس.
{وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ} قيل: هو الإسلام والدين، حكى هذا الواحدي عن الأكثرين.
وقيل: هو القرآن، روي هذا عن الحسن والعوفي.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله.
قال الزجاج: المعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن، وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المعنى: إنك على طبع كريم.
قال الماوردي: وهذا هو الظاهر، وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب.
وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها سئلت عن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: «كان خلقه القرآن»، وهذه الجملة، والتي قبلها معطوفتان على جملة جواب القسم {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون} أي: ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحقّ وانكشف الغطاء، وذلك يوم القيامة {بِأيّكُمُ المفتون} الباء زائدة للتأكيد أي: المفتون بالجنون، كذا قال الأخفش، وأبو عبيدة، وغيرهما، ومثله قول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب العلج ** نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

وقيل: ليست الباء زائدة، والمفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتون أو الفتنة، ومنه قول الشاعر الراعي:
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ** لحما ولا لفؤاده معقولا

أي: عقلا.
وقال الفراء: إن الباء بمعنى، في أي في أيكم المفتون، أفي الفريق الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر؟ ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة {في أيكم المفتون}.
وقيل: الكلام على حذف مضاف، أي: بأيكم فتن المفتون، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وروي هذا عن الأخفش أيضا.
وقيل: المفتون المعذب، من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته، ومنه قوله: {يوْم هُمْ على النار يُفْتنُون} [الذاريات: 13]، وقيل: المفتون هو الشيطان، لأنه مفتون في دينه، والمعنى: بأيكم الشيطان.
وقال قتادة: هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر، والمعنى: سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون، وجملة: {إِنّ ربّك هُو أعْلمُ بِمن ضلّ عن سبِيلِهِ} تعليل للجملة التي قبلها، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما، والمعنى: هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين {وهُو أعْلمُ بالمهتدين} إلى سبيله الموصل إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة، فهو مجاز كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر.
{فلا تُطِعِ المكذبين} نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين، وهم رؤساء كفار مكة؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه، فنهاه الله عن طاعتهم، أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار، أو المراد بالطاعة: مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير، فنهاه الله عن ذلك، كما يدلّ عليه قوله: {ودُّواْ لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون} فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة.
قال الفرّاء: المعنى لو تلين فيلينوا لك، وكذا قال الكلبي.
وقال الضحاك، والسديّ: ودّوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر.
وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون.
وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر، فيذهبون معك.
وقال الحسن: ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك.
وقال مجاهد: ودّوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمايلونك.
قال ابن قتيبة: كانوا أرادوه على أن يعبد آلاهتهم مدّة، ويعبدوا الله مدّة، وقوله: {فيُدْهِنُون} عطف على {تدهن} داخل في حيز لو، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي: فهم يدهنون.
قال سيبويه: وزعم قالون أنها في بعض المصاحف {ودّوا لو تدهن فيدهنوا} بدون نون، والنصب على جواب التمني المفهوم من ودّوا، والظاهر من اللغة في معنى الإدهان، هو ما ذكرناه أوّلا.
{ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ} أي: كثير الحلف بالباطل {مُّهِينٌ} فعيل من المهانة، وهي القلة في الرأي والتمييز.
وقال مجاهد: هو الكذاب.
وقال قتادة: المكثار في الشرّ، وكذا قال الحسن.
وقيل: هو الفاجر العاجز.
وقيل: هو الحقير عند الله.
وقيل: هو الذليل.
وقيل: هو الوضيع {همّازٍ مّشّاء بِنمِيمٍ} الهماز.
المغتاب للناس.
قال ابن زيد: هو الذي يهمز بأخيه.
وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم، كذا قال أبو العالية، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، وقال مقاتل عكس هذا.
والمشاء بنميم: الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال: نمّ ينمّ: إذا سعى بالفساد بين الناس، ومنه قول الشاعر:
ومولى كبيت النمل لا خير عنده ** لمولاه إلاّ سعيه بنميم

وقيل: النميم جمع نميمة {مّنّاعٍ لّلْخيْرِ} أي: بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه.
وقيل: هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام.
قال الحسن: يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا {مُعْتدٍ أثِيمٍ} أي: متجاوز الحدّ في الظلم كثير الإثم {عُتُلٍ} قال الواحدي: المفسرون يقولون: هو الشديد الخلق الفاحش الخلق.
وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل.
وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي.
وقال الليث: هو الأكول المنوع، يقال: عتلت الرجل أعتله إذا جذبته جذبا عنيفا، ومنه قول الشاعر:
نقرعه قرعا ولسنا نعتله

{بعْد ذلِك زنِيمٍ} أي: هو بعد ما عدّ من معايبه زنيم، والزنيم هو الدعيّ الملصق بالقوم وليس هو منهم؛ مأخوذ من الزنمة المتدلية في حلق الشاة أو الماعز، ومنه قول حسان:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ** كما زيد في عرض الأديم الأكارع

وقال سعيد بن جبير: الزنيم المعروف بالشرّ.
وقيل: هو رجل من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة.
وقيل: هو الظلوم {أن كان ذا مالٍ وبنِين} متعلق بقوله: {لا تطع} أي: لا تطع من هذه مثالبه لكونه ذا مال وبنين.
قال الفراء، والزجاج: أي لأن كان، والمعنى لا تطعه لماله وبنيه.
قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والمغيرة، وأبو حيوة {أن كان} بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام.
وقرأ حمزة، وأبو بكر، والمفضل {أأن كان} بهمزتين مخففتين، وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر، وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به: التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوّله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله.
وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط، وجملة {إِذا تتلى عليْهِ ءاياتنا قال أساطير الأولين} مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي، وقد تقدّم معنى أساطير الأوّلين في غير موضع {سنسِمُهُ على الخرطوم} أي: سنسمه بالكيّ على خرطومه.
قال أبو عبيدة، وأبو زيد، والمبرد: الخرطوم الأنف.
قال مقاتل: سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار.
قال الفراء: والخرطوم وإن كان قد خصّ بالسمة، فإنه في مذهب الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض.
قال الزجاج: سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم.
وقال قتادة: سنلحق به شيئا لا يفارقه، واختار هذا ابن قتيبة، قال: والعرب تقول: قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عارا لا يفارقه، فالمعنى: أن الله ألحق به عارا لا يفارقه كالوسم على الخرطوم، وقيل: معنى {سنسِمُهُ}: سنحطمه بالسيف.
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحدّه على شرب الخمر، وقد يسمى الخمر بالخرطوم، ومنه قول الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب ** وأنت بالليل شرّاب الخراطيم

وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والخطيب في تاريخه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: إن أوّل شيء خلقه الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: يا ربّ، وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ثم طوى الكتاب ورفع القلم، وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء، ففتقت منه السموات ثم خلق النون، فبسطت الأرض عليه، والأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت الجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة، ثم قرأ ابن عباس: {ن والقلم وما يسْطُرُون}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد».
وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرّة عن أبيه مرفوعا نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون، وهي الدواة: وخلق القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس قال: {ن} الدواة.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النون: السمكة التي عليها قرار الأرضين، والقلم الذي خطّ به ربنا عزّ وجلّ القدر خيره وشرّه، وضرّه ونفعه» {وما يسْطُرُون} قال: «الكرام الكاتبون» وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: {وما يسْطُرُون} قال: ما يكتبون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {وما يسْطُرُون} قال: وما يعلمون.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، ومسلم، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أمّ المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن: {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}».
وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، والواحدي عنها «قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا من أهل بيته إلاّ قال: لبيك. فلذلك أنزل الله {وإِنّك لعلى خُلُقٍ عظِيمٍ}».
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن أبي الدرداء قال: «سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه».
وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي قال: «قلت لعائشة: كيف كان خلق رسول الله؟ قالت: لم يكن فاحشا ولا متفاحشا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح».
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فستُبْصِرُ ويُبْصِرُون} قال: تعلم ويعلمون يوم القيامة {بِأيّكُمُ المفتون} قال: الشيطان، كانوا يقولون: إنه شيطان، وإنه مجنون.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: بأيكم المجنون.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله: {ودُّواْ لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون} يقول: لو ترخص لهم فيرخصون.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا {ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ مّهِينٍ} الآية قال: يعني: الأسود بن عبد يغوث.
وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال: قال مروان لما بايع الناس ليزيد: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر، ولكنها سنة هرقل، فقال مروان: هذا الذي أنزل فيه: {والذى قال لوالديه أُفّ لّكُما} [الأحقاف: 17] الآية، قال: فسمعت ذلك عائشة فقالت: إنها لم تنزل في عبد الرحمن، ولكن نزل في أبيك: {ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ مّهِينٍ همّازٍ مّشّاء بِنمِيمٍ}.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال: «نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم {ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ مّهِينٍ * همّازٍ مّشّاء بِنمِيمٍ} فلم نعرف حتى نزل عليه بعد ذلك زنيم، فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: العتلّ هو الدعيّ، والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشرّ.
وأخرج عبد بن حميد، وابن عساكر عنه قال: الزنيم: هو الدعيّ.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه عنه أيضا قال: الزنيم الذي يعرف بالشرّ كما تعرف الشاة بزنمتها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: هو الرجل يمرّ على القوم، فيقولون رجل سوء.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله: {زنِيمٍ} قال: ظلوم.
وقد قيل: إن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق.
وقيل: في الوليد بن المغيرة. اهـ.